الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
زاد مالك في مشهور مذهبه شرطًا، وهو أنه يشترط في وجوب تقويم عروض المدير أن يصل يده شيء ناص من ذات الذهب أو الفضة، ولو كان ربع درهم أو أقل، وخالفه ابن حبيب من أهل مذهبه، فوافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك.ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الظاهر، ولم نعلم بأحد من أهل العلم خالف في وجوب زكاة عروض التجارة، إلا ما يروى عن داود الظاهري، وبعض أتباعه.ودليل الجمهور، آية: وأحاديث: وآثار: وردت بذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. ولم يعلم أن أحدًا منهم خالف في ذلك، فهو إجماع سكوتي.فمن الأحاديث الدالة على ذلك: ما رواه أبو ذر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته». الحديث: أخرجه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي.وقال النووي في (شرح المهذب) هذا الحديث رواه الدارقطني، في سننه والحاكم أبو عبد الله، في (المستدرك) والبيهقي، بأسانيدهم، ذكره الحاكم، بإسنادين: ثم قال: هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم. اهـ.ثم قال: «وفي البز صدقته» هو بفتح الباء وبالزاي. هكذا رواه جميع الرواة، وصرح بالزاي الدارقطني، والبيهقي، وقال ابن حجر في (التلخيص): حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الإبل صدقتها وفي البز صدقته». أخرجه الدارقطني، عن أبي ذر من طريقين، وقال في آخره: وفي البز صدقته، قالها بالزاي، وإسناده غير صحيح مداره على موسى بن عبيدة الربذي، وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج، عن عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس، عن أبي ذر، وهو معلول لأن ابن جريج، رواه عن عمران: أنه بلغه عنه، ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه وقال: سألت البخاري عنه فقال: لم يسمعه ابن جريج من عمران، وله طريقة رابعة، رواه الدارقطني أيضًا، والحاكم، من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن عمران، ولفظه: «في الإبل صدقته، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البز صدقته» ومن رفع دراهم أو دنانير لا يعدها لغريم. ولا ينفقها في سبيل الله، فهو كنز يكوى به يوم القيامة، وهذا إسناد لا بأس به. اهـ.فترى ابن حجر قال: إن هذا الإسناد لا بأس به مع ما قدمنا عن الحاكم من صحة الإسنادين المذكورين، وتصحيح النووي لذلك والذي رأيته في سنن البيهقي: أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام يروي الحديث عن موسى المذكور، عن عمران، لا عن عمران مباشرة فانظره.فإن قيل قال ابن دقيق العيد: الذي رأيته في نسخة من (المستدرك) في هذا الحديث: البر بضم الموحدة وبالراء المهملة، ورواية الدارقطني: التي صرح فيها بالزاي في لفظة البز في الحديث ضعيفة، وإذن فلا دليل في الحديث على تقدير صحته على وجوب زكاة عروض التجارة.فالجواب هو ما قدمنا عن النووي، من أن جميع رواته رووه بالزاي، وصرح بأنه بالزاي البيهقي، والدارقطني، كما تقدم.ومن الأحاديث الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة، ما أخرجه أبو داود في (سننه) عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه، قال: أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع، وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده. وقد قال ابن حجر في (التلخيص) في هذا الحديث: رواه أبو داود والدارقطني والبزار، من حديث سليمان ابن سمرة عن أبيه وفي إسناده جهالة. اهـ.قال مقيده- عفا الله عنه- في إسناد هذا الحديث، عند أبي داود حبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب. وهو مجهول. وفيه جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهو ليس بالقوي، وفيه سليمان بن موسى الزهري أبو داود، وفيه لين، ولكنه يعتضد بما قدمنا من حديث أبي ذر، ويعتضد أيضًا بما ثبت عن أبي عمرو بن حماس، أن أباه حماسًا قال: مررت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى عنقي أدم أحملها، فقال: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقال: ما لي غير هذا، وأهب في القرظ قال: ذلك مال فضع، فوضعها بين يديه، فحسبها فوجدت قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة، قال ابن حجر في (التلخيص) في هذا الأثر، رواه الشافعي، عن سفيان، حدثنا يحيى عن عبد الله بن أبي سلمة، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب. فذكره، ورواه أحمد، وابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، عن يحيى بن سعيد به، ورواه الدارقطني، من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه نحوه، ورواه الشافعي أيضًا عن سفيان عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه. اهـ.وحماس بكسر الحاء وتخفيف الميم وآخره سين مهملة، فقد رأيت ثبوت أخذ الزكاة من عروض التجارة عن عمر، ولم يعلم له مخالف من الصحابة.وهذا النوع يسمى إجماعًا سكوتيًا، وهو حجة عند أكثر العلماء، ويؤيده أيضًا ما روا البيهقي، عن ابن عمر: أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة، من كتابه أنبأ أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة. حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي حدثنا أحمد بن حنبل. حدثنا حفص بن غياث. حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. اهـ.قال: وهذا قول عامة أهل العلم، فالذي روى عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لا زكاة في العرض، قال فيه الشافعي: في كتاب القديم إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان اتباع حديث ابن عمر لصحته والاحتياط في الزكاة أحب إلي، والله أعلم. قال: وقد حكى ابن المنذر، عن عائشة وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر، ولم يحك خلافهم عن أحد فيحتمل أن يكون معنى قوله إن صح لا زكاة في العرض إذا لم يرد به التجارة. اهـ. من سنن البيهقي. ويؤيده ما رواه مالك في (الموطأ)، عن يحيى بن سعيد، عن زريق بن حَيَّان. وكان زريق على جوازِ مصر في زمان الوليد بن عبد الملك وسليمان وعمر بن عبد العزيز. فذكر أن عمر بن عبد العزيز، كتب إليه أن انظر من يمر بك من المسلمين، فخذ ممَّا ظهر من أموالهم ممَّا يريدون من التجارات من كل أربعين دينارًا دينارًا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارًا فإن نقصت ثلث دينار فدعها، ولا تأخذ منها شيئًا.وأما الآية: فهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] على ما فسرها به مجاهد- رحمه الله تعالى- قال: البيهقي، في (سننه) باب زكاة التجارة قال الله تعالى وجل ثناؤه: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر بن الحسن القاضي، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا ورقاء، عن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] قال: التجارة {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} [البقرة: 267] قال: النخل، وقال البخاري في (صحيحه) باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى قوله: {أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]. قال ابن حجر في (الفتح) هكذا: أورد هذه الترجمة مقتصرًا على الآية بغير حديث.وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة، عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال. أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه، وأخرجه الطبري من طريق هشيم عن شعبة، ولفظه {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} قال: من الثمار.ولا شك أن ما ذكره مجاهد، داخل في عموم الآية: فتحصل أن جميع ما ذكرناه من طرق حديث أبي ذر، وحديث سمرة بن جندب المرفوعين وما صح من أخذ عمر زكاة الجلود من حماس، وما روي عن بن عمر، وعمر بن عبد العزيز.وظاهر عموم الآية الكريمة، وما فسرها به مجاهد، وإجماع عامة أهل العلم إلا من شذ عن السواد الأعظم، يكفي في الدلالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة. والعلم عند الله تعالى.
|